برعاية سماحة السيّد علي فضل الله، وفي الذكرى الخامسة لرحيل العلامة السيد محمد حسين فضل الله، أقامت مؤسَّسات سماحته مؤتمر “أنسنة الدّين في فكر المرجع الراحل السيّد محمّد حسين فضل الله”، بحضور الشيخ بلال الملا ممثلاً مفتي الجمهوريَّة سماحة الشيخ عبد اللطيف دريان، والشيخ سامي أبو المنى ممثلاً شيخ عقل طائفة الموحّدين الدروز نعيم حسن، الدكتور فرج كرباج ممثلاً رئيس حزب الكتائب النائب سامي الجميل، الشيخ مصطفى ملص ممثلاً تجمّع العلماء المسلمين، وعدد من الشّخصيّات الحزبيّة والسياسيّة والفكريّة والعلمائيّة والدبلوماسية. السيد فضل الله : بعد آيات من القرآن الكريم، والنّشيد الوطني اللبنانيّ، كانت الكلمة الافتتاحيَّة لسماحة العلامة السيد علي فضل الله، الذي أشار في بدايتها إلى ما نعانيه من أمور على أساس إفرازات الواقع، مشيراً إلى توسّع المدى الذي بات يحرّك الخطاب التكفيريّ، إذ بات في حيّز غير مسبوق بفعل وسائل التواصل الإلكترونيَّة والمنصات الاجتماعيَّة، لافتاً إلى عدم اقتران الفكر النّظري بالممارسة والتطبيق، ما يؤكّد أنّ الحديث عن الأنسنة لم يعد ترفاً فكرياً بل ضرورة ملحّة، معتبراً أنّ من أبرز الأصوات التي حاولت التأصيل للأنسنة، كان صوت سماحة السيد فضل الله(رض). وقال: “الأنسنة عند السيّد كانت، والكلّ يشهد، سبّاقة.. مستشرفة للقادم من الأيام والأفكار، لم تأتٍ يومها كردِّ فعل، بل انبثقت من فطرة سليمة وعت الله ورسالة رسوله ورسله كافة، كما هي، كأساس لواقع إنسانيّ أفضل ـ هذا المبدأ على بساطته قد يكون فيه الحلّ لكثير من مشاكلنا ـ فبهذا المبدأ نستدعي التراث الديني إلى واقعنا المعاش، لنصلحه ونحسن صنعه بتمثّل الأنبياء والأولياء، في مقابل الفهم المعكوس للدّين، الذي يريد أن يستلب الواقع باسم الدين، وأن يردّه إلى العصور الغابرة، بحثاً عن واقع يراه مثالياً، فيعود بنا إلى الجاهلية مثلاً، مع ما تمثّله من تخلف وقهر. وهذا المبدأ الَّذي حسمه السيد ـ مبدأ أنَّ الدين لخدمة الإنسان، لا أنّ الإنسان مسخَّر لخدمة الدين لذاته ـ ينسحب على عدة جوانب من فكر السيّد، وهي: 1- الأنسنة في الفهم الديني. 2- الأنسنة في التّشريع الدينيّ. و3- الأنسنة في الخطاب الدّينيّ. وسنمرّ عليها سريعاً ولن أستفيض”. وأضاف: “الأنسنة في فهم الدين، تعني في منطوق السيّد أنَّ فهم الدين عمليَّة بشرية تحتمل الصَّواب والخطأ، وإذا سلَّمنا بعدم معصوميّة الإنسان المجتهد والمفكّر، فبالتالي نقول بعدم معصوميَّة الفهم، وهذا ينسحب إلى النظرة إلى الآخر، ويدفعك إلى مدّ جسور تواصل إنسانيّ ندي، وهذا من شأنه أن يفكّ فتيل الفكر الإلغائيّ التكفيريّ المتعصّب، الّذي يقوم على وهم امتلاك الحقيقة دون باقي الناس، وعلى أن فهماً واحداً للدّين يختزل كلّ الأفهام”. وتابع سماحته: “أما الأنسنة في التّشريع الدّينيّ، فكان السيّد سباقاً على مستوى تجديد الفقه في سياق إنسانيّ، كمثال فقه المرأة أو فقه الآخر الملّي، الّذي شاب الفقه والفقهاء لفترات طويلة من الزمن ومن دون أدنى نقاش.. ولم يقبله السيّد كما لم يقبل العديد من السّائد والمشهور، في وقت كانت عدم مخالفة المشهور هدفاً بحدّ ذاته، والذي يخالف هذا المشهور يُرمى بشتى الاتهامات”. وأردف قائلاً: “والأنسنة في الخطاب الدّينيّ عند السيّد، تمثّلت في اعتماد خطاب الحبّ والرفق والرحمة والبسمة، والابتعاد عن خطاب التّهديد والوعيد والزّجر والتّأنيب.. وهي لغة لطالما ارتبطت للأسف بالخطاب الدّينيّ، ولا زلنا نشهدها في العديد من السّاحات”.وأضاف: “لقد قلَّص خطاب السيّد الفارق بين ـ ما سمّي اصطلاحاً ـ المفكّرين والمثقّفين، وصولاً إلى دوائر شعبويّة اجتماعيَّة، اعترافاً بإنسانيّتهم جميعاً ليأخذ الدّين مداه”. وختم سماحته بالقول: “وتبقى نقطة أخيرة ميَّزت خطاب الأنسنة عند السيّد، وهي ترجمة الخطاب عملياً على أرض الواقع، فهو كما عمل على إلغاء الفواصل بين طبقة العلماء أو رجال الدين والعامة، كما ذكرنا، سعى أيضاً إلى تقليص الفوارق بين طبقات المجتمع، تخفيفاً لمعاناة الفقراء والمستضعفين والمحرومين.. لقد انتقلت الأنسنة من الفكر عند السيّد إلى الفعل، وإلى العمل الاجتماعيّ، وإلى المؤسَّسات الّتي تُحفظ فيها الكرامة الإنسانيَّة”.فنيشوترأّس الوزير الحاج محمد فنيش الجلسة الأولى للمؤتمر، والَّتي حملت عنوان: “الإنسانيَّة في فكر السيّد فضل الله”، حيث أشار في كلمته إلى الجهد الكبير الَّذي بذله السيّد فضل الله على مستوى البناء الداخليّ والعمل لاستعادة الأمة هويَّتها الفكريَّة والإنسانيَّة. وأضاف فنيش: “من عاش في فترة سماحة السيد فضل الله، يدرك حجم الصعوبات التي واجهت كل هؤلاء الذين عملوا للدفاع عن قضايا الإنسان وعن مفاهيم الإسلام الأصيلة، في مواجهة أولئك الذين رفضوا أيّ تعديل وتغيير على أساس ما ركّزه الاستعمار من مفاهيم جعلت المجتمعات تعيش في غربة عن تاريخها وواقعها”.وأشاد بالسيد فضل الله “المرجع الكبير، وبالعلماء المستنيرين الّذين واجهوا واقعاً متكلّساً ومتحجّراً”.. مشيراً إلى البعد الإنساني في فكر السيد فضل الله، ونبذه للعصبيّات، وانفتاحه على الآخر، ورفده للمقاومة ودورها الإنسانيّ في رفض الظلم. السيّد حسين : وكانت كلمة رئيس الجامعة اللبنانية، الدكتور عدنان السيد حسين، تحت عنوان “الأبعاد الوطنيَّة والقوميَّة والعالميَّة في فكر سماحة السيّد محمد حسين فضل الله”، أشار فيها إلى مبدأ “التقوى السياسية” الذي طرحه السيد فضل الله، والذي يعني المثاليَّة في تطبيق جوهر الدين، مشيراً إلى أنّ السياسة عند السيد فضل الله ليست لعبة يلعبها اللاعبون، بل هي مندمجة في الأخلاق، وهي مسؤوليّة يتحمّلها الإنسان أمام قضايا مجتمعه وأمّته. وتطرَّق إلى قضايا أساسية في فكر السيد فضل الله السياسيّ، وخصوصاً قضية فلسطين، مشيراً إلى أنَّ السيد فضل الله لم يكن ضدّ اليهود لأنّهم يهود، بل كان ضدّ المغتصبين منهم.. مؤكداً الدور الكبير الذي قام به السيد فضل الله في إطلاق المقاومة، انطلاقاً من مسجد بئر العبد، وصولاً إلى محاولات المخابرات المركزيّة اغتياله.. وأكّد أن السيد فضل الله كان يرفض مقاربة العلاقة مع إيران من موقع مذهبيّ أو وطنيّ أو قوميّ. دكاش وكانت كلمة رئيس جامعة القديس يوسف، الأب الدكتور سليم دكاش، والّتي كانت تحت عنوان: “الانفتاح الإنسانيّ في فكر السيد فضل الله”، وقد أشار فيها إلى طرح السيد فضل الله لدولة الإنسان، مؤكداً أن هذا الطرح كان يمثل مخرجاً فكرياً لدولة مبنيَّة على إنسانيَّة الإنسان وعلى الانفتاح الإنساني.. وأشاد بمنطلقات السيد فضل الله وانفتاحه على كلّ الناس، متحدثاً عن مبدأ طهارة الإنسان الفطرية، حيث إنَّ هذه الطّهارة لا يدنّسها شيء على المستوى المادي، فالإنسان إذا بقي على طهارته ونقائه الروحيّ والفطريّ يسهل اللقاء معه. وتوقَّف دكاش عند رؤية السيد فضل الله لمعنى الوطن والوطنية، مشيداً برأي السيد الذي اعتبر فيه أن أية قيمة إسلاميّة لا يُقتصر في عطائها على المسلمين بل تمتدّ إلى الآخرين، وبرفض السيد لأن يكون التّعايش مجرد شعار سياسيّ يمكن طرحه ثم سحبه تحت وطأة ظروف معينة. وختم داعياً إلى استثمار فكر السيّد فضل الله، وخصوصاً في خضمّ الأحداث التي نعيشها، وأمام هذا الانحطاط الفكريّ العميق الذي أصاب عالمنا العربيّ والإسلاميّ. جعفر فضل الله وكانت كلمة سماحة السيد جعفر فضل الله حول “مرتكزات مشروع الأنسنة لدى سماحة السيد فضل الله”، قال فيها: “إنَّ الأنسنة هي لازمة من لوازم خطاب السيّد؛ أنسنة الدين، وأنسنة النبوة، وأنسنة الصّراع بين قوى الخير والشر”، مشيراً إلى أنّ الدين لدى السيد فضل الله يمثّل عملية استعادة دائمة للإنسانيَّة، وأنّ الإنسان محور الفاعلّية الحضاريَّة.. مؤكّداً أنَّ أنسنة الدين هي ميدان خصب لتقريب الهوّة بين العلوم الإنسانيَّة والعلوم الشَّرعيّة.