يعيش المسلمون في لبنان كما في مختلف البلاد العربية حاليا حالة من الصراع حملت في طياتها انعكاسات سلبية كثيرة على المستوى الديني والأمني والاجتماعي وأيضا الاقتصادي، ولكن وبلا أدنى شك فإن من أبرز آفات هذا الصراع العبثي الذي تشهده ساحاتنا الإسلامية هو سيطرة الفتاوى الشاذة والفاسدة على عقول كثير من الشباب، والأسوأ أنها تحولت من أقوال إلى أعمال ثم إلى تفجيرات تستهدف الأبرياء..!؟
وفي خضم هذا الجنون المسيطر على العديد من العقليات يبرز السؤال عن دور وأهمية وكيفية تفعيل أدوار العلماء ورجال الدين في المجتمع، خاصة أنهم من أصحاب الكلمة المسموعة ومن ذوي الثقة والعدل ويتمتعون بالقبول والاحترام في نفوس المجتمع.
فأصوات كثيرة تسأل.. لماذا تفرق المسلمون في بلادهم وبين ظهرانيهم مراجع وعلماء ثقاة..؟!
ولماذا لم تبادر ثلة من هؤلاء إلى ردم الهوة التي أنشأها المفسدون بين أبناء الوطن الواحد.. ثم بين نفوس أبناء الدين الواحد.. ثم بين أتباع المذهب الواحد…؟!
وماذا عن دورهم في توجيه وترشيد السياسيين لما فيه خير البلاد والعباد..؟!
وماذا عن موقفهم من الوسائل الإعلامية والتي تحولت في عز الأزمات إلى ما يشبه الخزان الذي يصب الزيت على النار..؟!
أسئلة كثيرة تطرح وتحتاح إلى ردود واعية تدرك المصلحة العامة وتعمل على تحقيقها..
ولذا.. كان هذا اللقاء مع سماحة السيد علي فضل الله:
تفعيل دور العلماء
* بدايةً سماحة السيّد، نسأل: ما هو دور المرجعيّات الدّينيّة في مكافحة الفكر المتشدّد الّذي أدّى إلى انتشار موجة من التّفجيرات في بلادنا؟
– إنّ دور المرجعيّات الدّينيّة في الأصل، هو رعاية شؤون العباد الدّينيّة، بحيث ترشدهم إلى أمور دينهم وتكاليفهم الشّرعيّة الّتي من المفترض أن يلتزموا بها، كي يؤدّوا ما عليهم من واجبات تجاه أنفسهم ومجتمعاتهم، وأن تبيّن لهم الطّرق المؤدّية إلى الانحراف كي يجتنبوها، على القاعدة الّتي أرساها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»، فدور المرجعيّات الدينيّة هو دور رسوليّ، يعمل على هداية النّاس إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم.
وبالتالي، فإنّ من أولى واجباتهم، أن ينبّهوا النّاس إلى عدم القيام بكلّ ما يمكن أن يؤدّي بهم إلى الهلاك، سواء اتّصل الأمر بتهلكة النّفس أو المجتمع. من هنا نقول، إنّ دور المرجعيّات الدينيّة، هو مكافحة كلّ ما من شأنه أن يضرّ بالنّاس ومصالحهم، ومعالجة مشاكلهم بالطّرق الّتي تحسّن ظروف حياتهم.
على أنّ الأهمّ في هذه المرحلة، أن تقوم هذه المرجعيّات بدورها في مواجهة كل ما يتهدَّد حياة النّاس وأرزاقهم وممتلكاتهم، بالشّكل الّذي بتنا نراه نتيجة استشراء فتاوى رجال دين يستسهلون إصدار الفتاوى التّكفيريّة الّتي تجعل النّاس في حال توتّر وقلق، وتدفع بعددٍ منهم إلى تفجير أنفسهم، بحجَّة أنَّهم يقومون بواجبٍ دينيٍّ يجري تغطيته بفتاوى من قبل من هم ليسوا بأهل للفتيا، أو ممن لا يعنيهم أمر وحدة المسلمين واتحادهم، ولا يهمّهم إن تفرّقوا شيعاً جرّاء فتاويهم، أو إن فجّر بعضهم بعضاً لأسبابٍ مذهبيّةٍ، يُخضِعون فيها أوضاع المسلمين لاجتهادات شخصيّة، تكون نتيجتها إدخال البلاد والعباد في دائرة العداوات والأحقاد، الّتي تجعل من الإرهاب والتّفجير الطّريقة الوحيدة للتَّعبير عن الآراء والمعتقدات الّتي يؤمن بها البعض تجاه البعض الآخر.
* ألا ترون أنّ من الواجب على كلّ الدّعاة ورجال الدّين في لبنان، أن ينظّموا حملات إعلاميّة توعويّة مشتركة لمواجهة هذه التّفجيرات؟
– إنّنا، ومن موقعنا الدّيني، دعونا ولا نزال ندعو، إلى التقاء كلمة المسلمين على الوحدة، وعلى المحبّة والخير، لأنّ الناس بطبيعتهم طيّبون، وتهمّهم الحياة الآمنة والمستقرّة، والبعيدة عن العنف والغلـوّ.
لذلك، لا بدَّ للعلماء من أن يستجيبوا لرغبة النَّاس في اللّقاء والحوار والتّفاهم على كلّ ما يهمّ أمور المسلمين، وخصوصاً حين يصل الأمر إلى هذا المستوى من الحقد والعداء الّذي لا يتورّع فيه بعضهم عن تفجير أنفسهم في حياة النّاس وممتلكاتهم..
إنّ هذا الواقع يستدعي استنفاراً جدّياً من قبل كلّ العلماء المخلصين الحريصين على حياة النّاس وأرزاقهم، وعلى دينهم بالدّرجة الأولى، كي يشكّلوا قوّة كبيرة تدفع باتجاه إعاقة غايات العاملين على التّكفير المؤدِّي إلى التَّفجير، لأنَّ الخاسر الأكبر في النّهاية، هو الإسلام والمسلمون، وعلى العلماء إذا ظهر شيء من المخاطر على النَّاس، أن يظهروا علمهم، وأن يقفوا سدّاً منيعاً متَّحدين في مواجهة موجات الحقد بكلام الحبّ، وموجات التَّفجير بالوحدة الّتي تكافح أعمال قتل هؤلاء المفرّطين بالأمَّة ومجتمعاتها.
وهنا قد يستدعي الواجب القيام بحملات إعلاميَّة، من تصريحاتٍ ومؤتمراتٍ صحفيّة ولقاءات ميدانية شعبية، ومبادراتٍ وندواتٍ ومحاضرات، تنبّه إلى مخاطر مثل هذه السّلوكيات المتطرفة والخطرة الّتي تذهب بقوّة المسلمين، وتحيلهم شيعاً متناحرة، يقتل بعضهم بعضاً، بدل أن يؤازر بعضهم بعضاً، ويساند بعضهم بعضاً في مواجهة أعداء الدّين والأمّة.
البناء يستلزم الأمن
* وماذا عن دور المرجعيّات في الضّغط على أهل السياسة، من أجل الاتّفاق على ما فيه مصلحة البلاد والعباد؟
– إنّنا نرى أنّ على المرجعيّات الدّينيّة، أن تتوجّه إلى كلّ من بيده القدرة على التّأثير، لأجل استقرار الحياة الاجتماعيّة للنّاس، وإشاعة الأمن الاجتماعيّ، لأنّنا لا يمكن أن نبني مجتمعاً صالحاً في أجواء الخوف والتوتّر والقلق. لذلك، نرى أنّ على أهل السياسة دوراً كبيراً في العمل على كلّ ما يشيع الأمن بين النّاس، ويحقّق الطّمأنينة لهم في حياتهم اليوميّة.. فأهل السياسة بيدهم أن يصنعوا الأجواء المساعدة على هذا الأمر.
ولكن – للأسف – نراهم يسهمون، من حيث يريدون أو لا يريدون، بتأجيج الخلافات بين النّاس، وتفريقهم أحزاباً وشيعاً، لأنّ حسابات السياسيّين هي دائماً كيف يستثمرون مواقعهم، حتّى لو كان ذلك على حساب أمن النّاس ومصالحهم.. إنّنا نحمّل السياسيّين المسؤوليّة على المستويات الوطنيّة والاجتماعيّة وغيرها، لأنّ من أولى مسؤوليّاتهم، حلّ مشاكل النّاس بدل تعقيدها، وإفشاء الأمن والسّلام بين النّاس، بدل جعلهم متعصّبين خائفين، ينساقون وراء الغرائز، لا وراء إعمال العقل في حلّ المشاكل واجتراح الحلول لأزماتهم المتنوّعة.
الحوار يريد نيات طيبة
* سماحة السيّد.. الإعلام بمختلف وسائله، يتحدّث عن فتنة (سنيّة ـ شيعيّة) تلوح آفاقها في المنطقة. فلماذا لم نرَ حتّى اليوم تحرّكاً مرجعيّاً جامعاً يتصدّى لهذه المصيبة؟ ولماذا لا يتمّ الإعلان عن خطّة عمليّة إسلاميّة ـ إسلاميّة؟
– في الحقيقة، إنَّ المحاكمة العلميّة لنصوص القطيعة والنزاع والإلغاء والتّكفير والإكراه، على المستوى الإسلاميّ، تظهر لنا أنّها نصوص مزيّفة أو مبتورة، فقد تكون فاقدة السّند العلميّ، أو حاملةً لتأويلات تبعدها عن دلالتها الحقيقيَّة، ولا سيَّما في قضايا الكفر والإيمان، وغيرها من المسائل الحسَّاسة، أو منزوعة من سياقها النصّيّ وفضائها الخاصّ، كانتزاع آيات القتال أو القطيعة من سياقها وظروفها وحيثيَّاتها، لتبرير العنف، واعتباره قاعدةً في التّعامل مع الآخر.
وعلى هذا الصّعيد، فإنّ لنا في جهود كبار علماء المسلمين وفقهائهم، أملاً كبيراً في إظهار الإسلام بصورته الإنسانيّة المشرقة، المستندة إلى عنوان الرّحمة الإلهيّة الواسعة، الّتي تفيض على جميع البشر، باستثناء الجاحدين والمعاندين لكلّ القيم الإنسانيّة.
إنَّ هذه التوجّهات تؤسِّس لعيشٍ مشتركٍ أصيل، وتُخرج مفهوم الشَّراكة، المحكوم بالخطاب الطّائفيّ والمذهبيّ المتستّر بالدّين والأخلاق، إلى رحاب الدّين الواحد والإنسانيّة المشتركة، وعلى أساس أنَّ المثال الأخلاقي في حقيقته وعمقه، يتنافى ويتعارض مع هذا الواقع القائم والمقطّع الأوصال مذهبيّاً وطائفيّاً.
أمّا عن الخطّة العمليَّة لترجمة هذه القيم والمبادئ، فإنَّنا ندعو إلى قيام ندوات وحدويَّة، ومراكز دراسات مشتركة، ومجامع علميَّة تدرّس الدّين والفقه على جميع المذاهب، إضافةً إلى القيام بأنشطة اجتماعيَّة وشبابيَّة مشتركة.
لكنّ كلّ ذلك يحتاج إلى أصحاب إرادات طيّبة وواعية من قبل علماء الدّين المسلمين، ويحتاج أيضاً إلى أصوات العقلاء الكبار من علماء الأمّة، كي يباشروا مشروع رأب الصّدع داخل بنيانها. ونسأل الله أن يعين المسلمين على تحقيق هذا الهدف.
* نفوس الشَّباب مشحونة بأفكار فاسدة تزيد من لهيب الفتنة. فكيف يمكن للمجتمع، علماء وخطباء وسياسيّين وإعلاميّين، التصدّي لها بالعمل لا بالقول؟
– نحن نعتقد أنّ الشّباب هم عماد المجتمع وعصبه الحيّ، فإذا صلح الشّباب صلح المجتمع، وإذا فسدت هذه الشّريحة الحيويّة فسد المجتمع، فالإنجازات الّتي تحقّقها المجتمعات الإنسانيّة، تحقّقها بفضل عقول الشّباب ونشاطهم وقدرتهم على مواجهة المشكلات الّتي تنشأ في المجتمع، فإذا كان هؤلاء الشّباب غير مؤهَّلين للقيام بأعباء الحياة الفرديّة والاجتماعيّة، فعند ذلك يصبح المجتمع مجتمعاً مريضاً، سرعان ما تصيبه النّكسات، ويصبح عرضةً لكلّ أنواع المخاطر الّتي تتهدَّد وجوده الشخصيّ ووجوده الإنسانيّ. لذلك نقول إنّ المسؤوليَّة عن الشّباب وإرشادهم وتوعيتهم، هي مسؤوليَّة مشتركة بين علماء الدّين ووسائل الإعلام ورجال السياسة، فلا تنفع كلّ المواعظ للشّباب إذا كان هناك «ماكينة» تحريض تقوم بدور تخريبيّ لعقول هؤلاء الشّباب. ونحن ندعو إلى لقاءات شبابيّة لمناقشة المشاكل الّتي يعانيها هؤلاء الشّباب، لتدارسها مع أصحاب العقول الرّاجحة من العلماء والإعلاميّين والسياسيّين. أمّا ترك هذه الفئة فريسةً للتّحريض من قبل أصحاب النفوس المريضة، فإنّ انقسامهم في أجواء الفتنة، سيحوِّلهم جميعاً إلى وقود لها، وهذا ما هو حاصل اليوم، للأسف.
* أخيراً، ما هي دعوتكم للدّعاة والمرجعيّات وأهل السياسة في مثل هذه الظّروف الأليمة؟
– كما أسلفنا القول، فإنّ إصلاح المجتمع، ومواجهة مشكلاته المتنوّعة، وخصوصاً ما يتّصل منها بالفتنة، هو مسؤوليّة كلّ قادر من أبناء المجتمع، ومسؤوليّة كلّ مسؤول في الأمّة، سواء كان عالماً أو سياسيّاً أو إعلاميّاً أو غير ذلك. ونحن هنا لا نغفل عن دور الأهل والبيئات الاجتماعيّة، فكما في الحديث: «كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيّته»، فالمخاطر الكبرى المحدقة بمجتمعاتنا، لا يمكن مواجهتها بشكل فرديّ، أو من قبل جهة دون أخرى، بل لا بدّ من تضافر كلّ الجهود، ووضع كلّ الإمكانات، في سبيل الخروج من هذه الأزمات الكبرى الّتي بدأت تعصف بمجتمعاتنا، والّتي سوف تجعل أعمالنا جميعاً كرمادٍ اشتدّت به الرّيح في يوم عاصف. إنّ المخاطر كبيرة، ويجب أن يكون التصدّي لهذه المخاطر بالمستوى والحجم نفسيهما.. الكلام لم يعد يجدي مع ما يحاصرنا من مخاطر، ولا بدّ من العمل؛ العمل الواعي المسؤول الّذي يضع مصلحة الأمّة والمجتمع فوق كلّ اعتبار فئويّ أو طائفيّ أو حزبيّ أو مذهبيّ، فإذا قدرنا على ذلك، يمكن حينها أن ننجّي مجتمعنا من الهلاك، وإلاّ لن يفيدنا كلّ الكلام الّذي يرسل في الهواء الطّلق، دون أن يلقى في العقول والقلوب والآذان صدى يذكر…