قبل أشهر عدة، أطلق العلامة السيد علي فضل الله، بالتعاون مع حوالي 300 شخصية لبنانية وعربية (اسلامية ومسيحية وعلمانية) «ملتقى الأديان والثقافات للتنمية والحوار» بهدف تعزيز الحوار ومواجهة العنف الديني والتطرف وبناء ثقافة جديدة قائمة على قبول الاخر والتعددية.
نجح «الملتقى» في تثبيت نفسه كهيئة، لكن لم ينجح في اختراق جدار العصبيات وفي بناء حوار حقيقي، برغم ما سمعه أعضاء الملتقى من قيادات روحية وسياسية من تشجيع، وبرغم ذلك، أصرَّ أعضاء الملتقى على المتابعة مدركين أنهم يحفرون في صخر الأفكار الجامدة، لعلّهم يستطيعون زرع أفكار الحوار فيها.
وفي هذا السياق، يطلق «الملتقى»، غداً، مبادرة جديدة لدعم السلم الاهلي والحوار، وذلك عشية الذكرى الرابعة لرحيل المرجع السيد محمد حسين فضل الله الذي ترك إرثاً فكرياً وفقهياً غنياً بثقافة الاعتدال والانفتاح والحوار والتسامح، ترجمه نجله السيد علي فضل الله في مجالات عدة بينها تأسيس «ملتقى الأديان والثقافات للتنمية والحوار»، الذي جاء تعبيرا عن استشعار مجموعة شخصيات بالقلق الناتج عن ارتفاع الجدران وانسداد آفاق الحوار، «فكان اللقاء في تلك اللحظة التي كادت العصبية الدينية والمذهبية تلتهم فيها كل شيء، إن في لبنان أو سوريا والعراق. وكان الهمّ أن نرفع الصوت، وأن نسعى في حدود إمكاناتنا، وضمن الظروف المتاحة، لإطفاء نيران الحقد، ونبذ التعصب، وطرح الأسئلة والأفكار التي تهز أسس المشروعية الدينية والأخلاقية لهذا العنف الديني الأعمى المنفلت من أية ضوابط، والذي لا يراعي حرمة في مسجد أو كنيسة أو شارع يعج بالسكان الآمنين» على حد تعبير السيد علي فضل الله.
يقول فضل الله لـ«السفير»، عشية انعقاد «الملتقى» أن الوثيقة التأسيسيّة لـ«الملتقى» أكدت الحرص على تعزيز التفاهم بين المكونات الدينية والفكرية والثقافية والاجتماعية، وذلك من خلال إطلاق المدى لأوسع حوار على المستوى الديني ـ العلماني، وعلى المستوى الإسلامي ـ المسيحي، وعلى المستوى الإسلامي ـ الإسلامي، والتوصّل إلى عناوين جامعة تتجسّد في عمل جماعي مشترك. وربما تفرض الأولويات في هذه المرحلة، أن يتركز السعي على تعزيز العلاقة بين الأديان على الصعيد الديني العام، والعلاقة بين المذاهب على الصعيد الإسلامي العام، بما يهيئ لتحركات ومواقف تحثّ على نبذ الفتن بجميع أشكالها المذهبية والطائفية والسياسية».
يرى فضل الله أنَّ الأهم هو «التأكيد أنَّ كلّ أشكال التطرّف والتعصّب والغلوّ السّائدة، ليست من نتاج ديننا وثقافتنا، وهذا ما يحتاج إلى مقاربة علميّة وأخلاقيّة للخطاب الديني العصبويّ الّذي يشوّه صورة الدّين الحامل لأجمل القيم والمثل الإنسانيّة، ويهدّد العيش المشترك بالانفجار، ويدفع بلادنا نحو التقسيم، بما يحقق رغبة الكيان الصهيوني، وذلك بما يكشف الأسس الواهية التي يستند إليها خطاب التعصب، (إلى أي دين أو مذهب انتمى)، لإثبات مشروعيته الدينية والإيمانية».
«أهداف الملتقى»
وطنياً، يشدّد فضل الله على أن من أهداف الملتقى «تأكيد العيش المشترك، والعناية بالسلم الأهلي على قاعدة المواطنة القائمة على عناوين الكرامة والعدالة والمساواة».
يؤكّد فضل الله أن «الملتقى» لم ينطلق من فراغ، «بل ثمة مسيرة حوارية سلكت أكثر من اتجاه، ونحن نرفد هذه المسيرة بطاقات جديدة، ربما تحمل مقاربة أكثر عمقاً وشمولاً لأزماتنا الدينية والمذهبية والحضارية، وربما تلحظ في شكل أكبر حالة التنوع الطائفي والمذهبي والعلمائي».
يشير فضل الله إلى إنّ «أكثر ما يقلقنا في هذه المرحلة، ويأتي على رأس أولوياتنا، هو معالجة التشويه الذي لحق بصورة الإسلام خلال السنتين الأخيرتين، ومحاولة تصحيحها، وحشد كلّ الطاقات وتوجهيها لممارسة النقد الفكري والعلمي المسؤول، لتفكيك الرابط بين الإسلام والعنف الأعمى، وإقصاء الآخر، وتهديد العيش المشترك والسلام الداخلي ووحدة المجتمع والأمة، فضلاً عن تسليط الضوء على مخططات دولية تتحمل مسؤولية في إحداث هذا الرابط، ذلك أن الوقائع الدامغة تشير إلى دور فاعل لأجهزة استخبارية ودولية احتضنت هذا العنف المنسوب إلى الإسلام، ودعمته ورعته وشجعته ووظّفته، وسهّلت لأفراده الظروف والإمكانات وحرية الحركة، خدمة لمشاريعها السياسية الهادفة إلى إخضاع أوطاننا وإضعافها وبعثرة مكوناتها من جهة، وإلحاق الأذى بالإسلام والمسلمين من جهة أخرى».
يضيف: «أنّ من همومنا الكبيرة، الاستفادة من كل الوسائل لإظهار الإسلام بصورته المشرقة، فبذلك نقدّم أكبر الخدمات للأديان ودورها القيمي والإنساني، وللبشرية في مستقبل أكثر عدلاً وحرية وتحرراً».
مبادرة جديدة
عن المبادرة الجديدة التي سيطلقها «الملتقى» غداً تحت عنوان «السلم الأهلي وتعزيز لغة الحوار»، يقول فضل الله: «عندما تم اتخاذ القرار بإطلاق هذه المبادرة، كانت الساحة اللبنانية تعيش في ظل توترات أمنية حادة، وتفجيرات انتحارية دموية، واحتقانات طائفية ومذهبية، حتى بتنا وأصبحنا على عتبة حرب أهلية. وفي ظل هذا المناخ، كان لا بد من مبادرة نوعية تحشد تحت رايتها العدد الأكبر من مكونات المجتمع المدني والديني، التي تعبر عن الهم اللبناني، لإطلاق صرخة مدوية ضد الذين يريدون العبث بالسلم الأهلي، وتعريض الوطن لمخاطر حرب جديدة لا أفق لها إلا تعميق مأزق الانقسام الداخلي، شأنها شأن أي حرب أهلية لا ينتصر فيها إلا تجّار الحروب، والمتاجرين بما يسمونه مصالح المذاهب والطوائف وحقوقها، ولو كان ذلك على حساب مصالح الوطن ومصيره».
عن اللقاء الذي حصل بين «الملتقى» و«هيئة علماء المسلمين»، يرى فضل الله أن اللقاء بين شخصيات متنوعة في أفكارها ومواقفها، هو بحد ذاته أمر مؤثر ومفيد، وله انعكاساته الإيجابية، سواء على مستوى المشاركين أو على المستوى الشعبي، فالتعارف عن قرب يزيل الكثير من الحواجز النفسية، والانطلاق في الحوار من موقع الحرص على المصلحة الإسلامية والوطنية، يسهل عملية التوصل إلى رؤية مشتركة حول أكثر من قضية».
يعتقد فضل الله أن «الهوة بين الأطراف المختلفة في الساحة اللبنانية، والتي تتصل بقراءات متباينة للواقع الراهن، والمواقف المتضادة التي تنتج منها، تحتاج إلى نقاشات معمقة وحوارات صريحة قد تؤدي في حال صفت النوايا، وتم التعالي على المصالح المذهبية بمعناها الضيق، إلى قواسم مشتركة أساسية». لكنه يرى أن «المسألة تحتاج إلى وقت وإلى صبر ومثابرة. وبانتظار ذلك، نرى ضرورة التزام جميع الأطراف بمبدأين أساسيين يتعرض السلم الأهلي من دونهما للانفجار، والوحدة الإسلامية والوطنية للخطر: الأول عدم استخدام العنف في معالجة الخلافات السياسية، والثاني عدم استخدام الدين أو المذهب للتعبئة والتحريض في صراعاتنا الداخلية».
يرى فضل الله أن «الملتقى هو ثمرة من الثمار المباركة التي زرع سماحة المرجع الراحل محمد حسين فضل الله بذرتها وحرث أرضها. فالحوار مع الآخر كان في جوهر منهجه الفكري، وكانت الوحدة هاجسه، فلم يكن يراها ضرورة دينية فحسب، بل ضرورة وجودية تتصل بمستقبل الإسلام كدين وأمة. كان مرجعنا الراحل برؤيته الثاقبة، يتوجّس من أن تؤدي الذهنية المذهبية السائدة إلى انقسام إسلامي حاد وكبير، يفتح الأبواب أمام ما لا يحمد عقباه من صراعات دامية، محذراً بشكل دائم من حرب المئة عام في الوسط الإسلامي، والتي كان هنري كيسنجر يتوعد المسلمين بحصولها».
يضيف: «أننا اليوم أحوج ما نكون إلى نهجه ورصيده الحواري والوحدوي الكبير، وخصوصاً في ظل مأزق نعيشه اليوم ويخشى من أن يتعمق بالشكل الذي يحول دون إمكان تجاوزه لفترة زمنية طويلة، وذلك في ظل ظروف تشكُّل عالما جديدا يمكن أن يرمي بنا إلى قعر التاريخ».
يختم فضل الله: «المطلوب إجراء مراجعات حقيقية على صعيد فهمنا الديني، وعلى الصعيد الاستراتيجي والسياسي، والتحرك في أقرب وقت لإجراء مصالحات حقيقية على المستوى العربي والإسلامي، والتطلع إلى بناء نهضة حقيقية تقوم على تجديد في الفكر، وعلى تنمية شاملة في الاقتصاد، وعلى الوحدة في إطار التنوع، وبناء القوة في عالم لا يحترم إلا الأقوياء».